التطوير والتغيير المؤسسي

30th October, 2019

لا جدال في أننا نعيش في عصر يتسم بالتغيرات السريعة، ويمكنني أن أؤكد أن الكثير منّا يشعر بأن هذه التغييرات تأتي بشكل أسرع مما توقعنا، ومثال على ذلك فترات الازدهار والكساد في الدورات الاقتصادية، وتقلبات أسعار النفط، والاضطرابات التي تجتاح العديد من البلدان في المنطقة، وأنا متأكد أنه بحلول وقت كتابة مقالتي التالية، ستكون الأشياء قد تغيرت بشكل كبير مرة أخرى.

يتعلّق مجال التطوير المؤسسي بالتغييرات المؤسسية الناجحة، كما يجيب التطوير المؤسسي عن الأسئلة المتعلّقة بالوقت المناسب لتطبيق التغييرات، والأشخاص المناسبين لقيادتها، والعوامل الداعمة لها.

تغطي ممارسات التطوير المؤسسي طيفاً واسعاً من الأنشطة التي تتضمن – على سبيل الذكر وليس الحصر- بناء فرق العمل، والتغييرات الهيكلية، والتطوير الوظيفي، كما يتناول التطوير المؤسسي مجموعة واسعة من المواضيع المرتبطة بالتغيير وتحسين الفعالية المؤسسية.

وعلى الرغم من ارتباط التطوير المؤسسي بالتغيير بصورة أساسية؛ إلا أنه يمكن تقسيم عملياته إلى مرحلتين أساسيتين:

- المرحلة الأولى "تخطيط وتنفيذ التغيير": يتم تصميم تدخّلات التطوير المؤسسي سعياً لتحقيق رؤية المؤسسة وأهدافها وخططها الإجرائية، وهناك أربعة أنواع من تلك التدخّلات وهي: تدخلات العمليات البشرية، وتدخلات الهيكل والتكنولوجيا، وتدخلات الموارد البشرية، وأخيراً تدخلات استراتيجية الأعمال، حيث تركّز جميع تلك الأنواع على تيسير وإدارة عملية التغيير، ومن ضمنها تحفيز التغيير، وصياغة الرؤية المستقبلية المرجوة، وإنشاء الدعم السياسي اللازم، وإدارة العمليات التحوّلية التي توجّه المؤسسة نحو تحقيق الرؤية واستدامة التغيير.

- المرحلة الثانية "تقييم وإضفاء الطابع الرسمي على التغيير": تعتبر هذه المرحلة الأخيرة من عملية التغيير المخططة، وتتضمن تقييم أثر التدخلات، وإدارة برامج التغيير المؤسسي المستدامة، وفي هذه المرحلة يتم تقديم الملاحظات البنّاءة للموظفين حول نتائج التدخلات، والإصغاء لتعليقاتهم التي تعتبر ضرورية لمساعدة الإدارة على الاختيار ما بين استدامة وترسيخ التغييرات أو مراجعتها أو حتى تأجيلها لوقت لاحق، حيث يتضمن ترسيخ التغييرات الناجحة تعزيز سلوكيات الموظفين الجديدة عبر الملاحظات البنّاءة وأنظمة المكافآت والتدريب.

يمثّل نموذج المرحلتين الموصوف أعلاه الطبيعة العامة لعملية التطوير المؤسسي، إلا أن الخطوات المفصّلة للتغيير ستتباين وفقاً لاحتياجات وأهداف وسياق المؤسسة إلى جانب كفاءات التغيير المطلوبة، ومن الجدير بالذكر أن العوامل الثلاثة الأكثر أهمية التي تؤثر على خطوات التغيير هي: حجم التغيير المؤسسي، ومستوى هيكلة النظام المؤسسي، وحجم المؤسسة.

سأقدم شرحاً لمفهوم تدخّلات التطوير المؤسسي عبر إحدى تجاربي الشخصية في هذا المجال:

دعاني أحد مدراء إدارات الموارد البشرية لأساعده على معالجة مشكلة في مؤسسته كان حلها كامناً في تنفيذ تغيير في العمليات البشرية، وانتهى بنا المطاف بتطبيق تغيير مؤسسي يلبي الاحتياجات الخاصة للمؤسسة، وكان فحوى المشكلة هو تدنّي الروح المعنوية للموظفين الذي تصرّ الإدارة العليا على معالجته. كنت أعلم أن مثل هذه الأمور عادة ما تكون أكثر تعقيداً مما تبدو، وبعد تحقيق صغير تمكنت من اكتشاف الأسباب الجذرية للمشكلة، فقد مرت المؤسسة للتو بتغيير ثقافي هائل لم يستوعبه كثير من الموظفين بشكل صحيح، فساد شعور بأن المؤسسة ستركز الآن على الربحية على حساب تطوير الموظفين، ومما زاد الأمر سوءاً أن هذا أدى إلى شعور بعدم الثقة بين المدراء والمشرفين وبين المشرفين وبقية الموظفين، علاوة على ذلك وجد رئيس الشركة نفسه معزولاً مع عدم وجود مدير يمكنه الوثوق به أو تفويضه لمساعدته في إدارة المؤسسة. مع أخذ هذه الحقائق في الاعتبار وبدعم من رئيس الشركة بدأت في مرحلة التصميم والتخطيط لسلسلة من التدخلات البشرية التي اقترحتها.

بدأت العملية بورشة عمل صممت لمساعدة المدراء والمشرفين على إنشاء تركيز مشترك من شأنه أن يعزز العلاقة المهنية، وبالتالي معنويات الموظفين. كان هدفي الأول هو تحفيز المدراء والمشرفين نحو تبنّي الثقافة الجديدة، وكان هذا ضرورياً لصياغة رؤية مشتركة بينهما، وتشجيعهم على دعم الثقافة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك كنت بحاجة لتحقيق ما يلي:

- إعادة بناء الثقة بين المدراء والمشرفين.

- تشجيع المشرفين والمدراء على النظر إلى نجاح المؤسسة كمجهود مشترك وتعاوني.

كما استفدت من ورشة العمل في قيام جميع الموظفين والمدراء والمشرفين بتعبئة استبيان يتعلق بالثقافة الجديدة ولإبراز مجالات التحسين الملحوظة.

بعد ورشة العمل؛ قمت بإجراء جلسات عصف ذهني الموجهة نحو صياغة رؤية جديدة مع المدراء والمشرفين، وكان تركيز تلك الرؤية على تطوير عناصر العمل التي تهدف إلى تحسين الروح المعنوية لموظفي المؤسسة، واختتمت جلسات العصف الذهني بالتزام فردي وجماعي نحو جميع الإجراءات المتفق عليها.

ساعدَت ورشة العمل والدراسات الاستقصائية وجلسات العصف الذهني المدراء والمشرفين على استيعاب وتقبّل الثقافة الجديدة والتوصية بالإجراءات العملية اللازمة، وعلي القول بأن المدراء والمشرفين قد استمتعوا بجميع هذه الأنشطة التي أكسبتهم استيعاباً مشتركاً وكانت القوة الدافعة وراء جهودهم الرامية إلى توصيل الرسالة إلى موظفيهم وتوضيح فوائد الثقافة الجديدة وضرورة دعمها والحرص على استدامتها.

بعد ثلاثة أشهر من ورشة العمل؛ قمت بزيارة رئيس مجلس الإدارة ومدير الموارد البشرية، وكانوا سعداء بالنتائج الإيجابية لجهود التطوير المؤسسي، وبأن التغيير الثقافي الذي كافحوا من أجل تنفيذه في البداية أصبح مفهوماً بشكل جيد، يدعمه الجميع ويعززه، والأهم من ذلك تحسنت الروح المعنوية للموظفين بشكل كبير.

بعد عدة أشهر حصلت المؤسسة على جائزة لأفضل ممارسات للموارد البشرية، وهي تلك الممارسات التي تعزز معنويات الموظفين ورضاهم.

ختاماً، أود أن اقتباس مقولة تشارلز داروين: "ليس أقوى ولا أذكى أنواع الكائنات هو من ينجو، ولكنه النوع الأكثر قدرة على التغيير ". ينطبق هذا الاقتباس على المؤسسات، حيث ستفشل المؤسسات التي لا تتكيّف مع التغييرات المحيطة بها.

عن الكاتب
د. شارل طوق

شريك

يشغل الدكتور شارل طوق منصب شريك في شركة ميرك للتدريب والاسـتشارات وهو مؤلف Scattered Thoughts for Business and Life (الطبعة الأولى 2022، ISBN 978-0-578-33268-0) . الدكتور طوق حائز على شهادة الدكتوراة في إدارة الأعمال والماجيستير في بحوث الأعمال التطبيقية من كلية الأعمال السويسرية، وعلى درجة الماجستير في إدارة الموارد البشرية والتدريب من جامعة ليستر في بريطانيا، والبكالوريوس في الحقوق من الجامعة اللبنانية. بالإضافة إلى ذلك فقد حصل د. شارل على شهادة الاعتماد المهني من جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM-SCP) في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الشهادة المهنية لإدارة المشاريع (®PMP)، كما أنه عضو في معهد إدارة المشاريع (®PMI) و كما أنه مستشار في مجلس مراجعة مجلة هارفارد بيزنس ريفيو (Harvard Business Review ) ، ومدرّب معتمد من معهد الأداء والتعلم في كندا (™ CTP)، وخبير معتمد في التوجيه الإرشادي ACECC ، وحاصل على شهادة في الصحة والسلامة المهنية من نيبوش (NEBOSH) في المملكة المتحدة، إلى جانب كونه مستشاراً معتمداً في التطوير المؤسسي من الجمعية الدولية لتطوير وتغيير المؤسسات (ISODC) في الولايات المتحدة الأمريكية.

الاطلاع على الملف
إدارة الطاقة أم إدارة الوقت؟
إدارة الطاقة أم إدارة الوقت؟

قرأت مؤخرًا مقالًا حول ضرورة إدارة مستويات طاقة الموظفين بدلاً من التركيز…

د. شارل طوق
26th July, 2023
اقرأ أكثر
علم النفس الصناعي والمؤسسي
علم النفس الصناعي والمؤسسي

يعتبر علم النفس الصناعي والمؤسسي أحد فروع علم النفس التطبيقي، حيث يركّز…

د. شارل طوق
23rd February, 2021
اقرأ أكثر
هل ستغيّر روبوتات المحادثة
هل ستغيّر روبوتات المحادثة "Chatbots" قواعد لعبة التوظيف؟

تجد المؤسسات نفسها بين مطرقة التكنولوجيا وسندان التغيير المستمر الذي يدفعها…

د. شارل طوق
2nd February, 2021
اقرأ أكثر
هل مهنة خبير الجودة في طور الاندثار؟
هل مهنة خبير الجودة في طور الاندثار؟

في ضوء التقدم السريع للتكنولوجيا وما يسمى الثورة الصناعية 4.0، أي الذكاء…

د. فوزي بوّاب
2nd February, 2021
اقرأ أكثر