التقليص المؤسسي: وماذا بعد؟

18th February, 2020

انتشرت مؤخراً ممارسات تقليص حجم القوى العاملة، وأصبحت ظاهرة عالمية لا تؤثر على البلدان المتقدمة فحسب بل على بقية العالم أيضاً، وفي هذا المنحى علينا تذكّر أن مثل هذه الممارسات لا تطال الموظفين الذين تم الاستغناء عن خدماتهم فقط، ولكنها تطال بقية الموظفين الذين ما يزالون على رأس وظائفهم والذين قد يحلوا للبعض تسميتهم بـ “الناجين"، وعلينا ألا نتفاجأ في حال شملت الآثار المترتبة عليهم انخفاض روحهم المعنوية وانعدام شعورهم بالأمن الوظيفي مما قد يؤدي إلى تزايد نسبة التسرب الوظيفي.

مع كل حالات الهلع المؤسسي الناجمة عن الاتجاهات العالمية لإعادة الهيكلة وتقليص حجم العمليات والاستعانة بالاستشارات الخارجية، بدأ الموظفون في النظر في علاقتهم مع أرباب عملهم بشك ، إذ يرتبط هؤلاء الموظفون بأصحاب العمل بعقد "نفسي" غير مكتوب، تنص بنوده على تبادل الأمن الوظيفي مقابل الولاء والإخلاص، إلا أن ممارسات التقليص تسببت في شعور الموظفين بانتهاك هذا العقد، واهتزت ثقتهم بأصحاب عملهم مما أدى لانخفاض خطير في الالتزام والولاء، كما كانت هناك مشكلة أخرى ذات عواقب وخيمة تتمثل في ارتفاع معدل تسرب الموظفين من ذوي المواهب النادرة والأداء المتميّز، ففي الحالات التي تتقاعس فيها المؤسسات عن دعمهم قبل وخلال وبعد انتهاء برامج التقليص المؤسسي فخسارتهم نتيجة حتمية، وستعني تلك الخسارة فقدانها قادة الغد ولو كانت المؤسسة تحمل نحوهم صافي النوايا باستمرارهم في العمل وانحصار تركيزها على إزالة الفائض في أعداد الموظفين، إذ تعتبر تكلفة الاحتفاظ بأصحاب الأداء المرتفع أقل بكثير من تكاليف توظيف وتدريب الموظفين الجدد، لذا يجب على المؤسسات أن تحرص على الانتباه لجميع هذه الحقائق قبل أن تنظر في قرار التقليص المؤسسي.

بالإضافة إلى ما تقدم، علينا أن نذكر ميل المدراء إلى التسبب في شعور الموظفين الذين بقوا في وظائفهم بأنهم محظوظون، واعتقاد المدراء بأن ذلك الشعور سيبرر لهم إغراق الموظفين الناجين بأعمال ومهام إضافية دون التفكير في احتمال حدوث تسرب وظيفي كبير، وبالرغم أنه من المحتمل أن يتحمّل الموظفون هذه الأعباء الإضافية على المدى القصير ؛ إلا أنه سرعان ما ستظهر مشاكل جمّة تتراوح بين ما هو بسيط وصولاً إلى ما هو غير قابل للإصلاح والتعافي، ومن المفارقات أن بعض المدراء سيعزلون أنفسهم في هذه الأوقات الصعبة على الرغم من أن التصرّف الصحيح هو تعزيز التواصل الفعّال مع مرؤوسيهم، فعندما تتضرر ثقة الموظفين بالمؤسسة على الأخيرة أن توحّد جهودها الموجّهة نحو طمأنة الموظفين بشأن أمنهم الوظيفي ومستقبلهم وإنعاش ثقافة الثقة لتحقيق النتائج الإيجابية من جديد.

لذلك على القادة استخدام الأدوية المؤسسية التالية: التواصل، والرعاية، والرؤية الواضحة والتعاون.

1. التواصل: يحتاج القادة إلى وضع استراتيجية تواصل تركّز على إبقاء الموظفين مطّلعين بمجريات الممارسات المؤسسية، ولتحقيق ذلك يمكنهم إنشاء منصات اتصال لمناقشة مخاوف الموظفين وتأثيرات التقليص المؤسسي عليهم، كما ينبغي أيضاً تعزيز سياسة الباب المفتوح وتشجيع المدراء على التحدث بصدق مع الموظفين حول السيناريوهات المستقبلية المحتملة، وبالتأكيد سيقلل هذا التواصل الشفاف من ميل الموظفين إلى نشر الشائعات في مكان العمل.

2. الرعاية: يحتاج القادة إلى إظهار التعاطف مع الأشخاص الذين تم التخلي عنهم والعناية بأولئك الذين نجوا، وعليهم محاولة تشجيع الناجين على التعبير عن مشاعرهم حول ما جرى. تعد رؤية الإدارة وإمكانية الوصول إليها أمراً بالغ الأهمية بعد فترة التقليص المؤسسي، بالإضافة إلى ذلك فإن فترة "ما بعد التقليص" هي أفضل وقت لمراجعة برامج المكافآت وإرسال رسالة قوية إلى الموظفين الحاليين بأن المؤسسة مازالت تهتم بهم وأنهم موضع تقدير.

3. الرؤية الواضحة: يتّسم التقليص المؤسسي بصيت سلبي بشكل عام، ولتغيير هذه الصورة النمطية، على القادة وضع رؤية واضحة تسمح لهم بإدارة الموارد المتبقية بشكل صحيح، وهذه الرؤية الواضحة ستساعد المؤسسة على المضي قدماً وتجاوز تحديات ما بعد التقليص لضمان أن كل فرد يسير في نفس الاتجاه، فالتزام الناجين بالرؤية سيعيد الدماء إلى شرايين المؤسسة التي تم تقليص حجم عملياتها وموظفيها.

4. التعاون: إن التسرّع بافتراض أن الناجين سيعرفون كيفية تأدية أدوارهم الجديدة والتي قد تكون مختلفة عما اعتادوا عليه سابقاً هو خطأ فادح، فالتعاون والتدريب والثقة عناصر ضرورية للتغلب على هذه البيئة المربكة خصوصاً في الأشهر الأولى التي تلي التقليص، وإذا تم التعاون بشكل وثيق مع الموظفين الناجين فحتماً سيؤدي ذلك إلى التنفيذ الناجح لاستراتيجية ما بعد التقليص المؤسسي كما سيكون لذلك تأثيرٌ إيجابي على البيئة المؤسسية مما يؤدي إلى تحقيق الانتصارات السريعة وتوليد الأفكار المبتكرة.

يجبر الواقع المالي المؤسسات في بعض الأحيان على اتخاذ تدابير استثنائية بخفض التكاليف وتقليل أعداد القوى العاملة لديها، ولسوء الحظ أصبح تقليص حجم الموظفين وتسريح العمال من حقائق الحياة المهنية المعاصرة، فقد كان المهنيون سابقاً يميلون إلى الاعتقاد بأن البطالة شر لا بد منه ولا يمكن تجنّبها أو الهروب منها، ووصلت هذه الظنون إلى قيام بعض المحللين والمهنيين بإدراجها ضمن محطات الدورة الطبيعية للحياة المهنية متوقعين أن يتم التخلي عن خدماتهم في أي وقت أو ظرف طارئ، ولكنهم أدركوا لاحقاً أنه لا يطال الجميع، فتقبلوه بصدر أرحب وزادت القناعة بأن النتيجة الطبيعية لزيادة فعاليتهم وإنتاجيتهم هو الفائدة التي ستعود على مؤسساتهم وبالتالي تزيد احتمالية استمرارهم في العمل فيها.

إذا كنت ترغب في اتخاذ القرار الصعب بتقليص حجم الموظفين في مؤسستك؛ فإن نصيحتي لك هي الأخذ بكل التوصيات السابقة وتنفيذ التدابير الكاملة لإعادة الثقة بين المؤسسة وموظفيها الناجين، وعليك أن تنظر إلى الوضع الجديد كفرصة تغيير إيجابية وقابلة للتحقيق، كما عليك أن لا تتسرّع بقطع صلة التواصل مع الموظفين الذي تركوا المؤسسة خاصة إذا كان هناك احتمال لحاجتك لإعادة توظيفهم في مرحلة لاحقة. أما بالنسبة لك عزيزي الموظف؛ فلا تظن أن أمانك الوظيفي سيأتي إليك على طبق من ذهب، واحرص على التميّز في أدائك ولو أحاطتك خيوط الظلام الحالكة للتقليص المحتمل.

عن الكاتب
د. شارل طوق

شريك

يشغل الدكتور شارل طوق منصب شريك في شركة ميرك للتدريب والاسـتشارات وهو مؤلف Scattered Thoughts for Business and Life (الطبعة الأولى 2022، ISBN 978-0-578-33268-0) . الدكتور طوق حائز على شهادة الدكتوراة في إدارة الأعمال والماجيستير في بحوث الأعمال التطبيقية من كلية الأعمال السويسرية، وعلى درجة الماجستير في إدارة الموارد البشرية والتدريب من جامعة ليستر في بريطانيا، والبكالوريوس في الحقوق من الجامعة اللبنانية. بالإضافة إلى ذلك فقد حصل د. شارل على شهادة الاعتماد المهني من جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM-SCP) في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الشهادة المهنية لإدارة المشاريع (®PMP)، كما أنه عضو في معهد إدارة المشاريع (®PMI) و كما أنه مستشار في مجلس مراجعة مجلة هارفارد بيزنس ريفيو (Harvard Business Review ) ، ومدرّب معتمد من معهد الأداء والتعلم في كندا (™ CTP)، وخبير معتمد في التوجيه الإرشادي ACECC ، وحاصل على شهادة في الصحة والسلامة المهنية من نيبوش (NEBOSH) في المملكة المتحدة، إلى جانب كونه مستشاراً معتمداً في التطوير المؤسسي من الجمعية الدولية لتطوير وتغيير المؤسسات (ISODC) في الولايات المتحدة الأمريكية.

الاطلاع على الملف
إدارة الطاقة أم إدارة الوقت؟
إدارة الطاقة أم إدارة الوقت؟

قرأت مؤخرًا مقالًا حول ضرورة إدارة مستويات طاقة الموظفين بدلاً من التركيز…

د. شارل طوق
26th July, 2023
اقرأ أكثر
علم النفس الصناعي والمؤسسي
علم النفس الصناعي والمؤسسي

يعتبر علم النفس الصناعي والمؤسسي أحد فروع علم النفس التطبيقي، حيث يركّز…

د. شارل طوق
23rd February, 2021
اقرأ أكثر
هل ستغيّر روبوتات المحادثة
هل ستغيّر روبوتات المحادثة "Chatbots" قواعد لعبة التوظيف؟

تجد المؤسسات نفسها بين مطرقة التكنولوجيا وسندان التغيير المستمر الذي يدفعها…

د. شارل طوق
2nd February, 2021
اقرأ أكثر
هل مهنة خبير الجودة في طور الاندثار؟
هل مهنة خبير الجودة في طور الاندثار؟

في ضوء التقدم السريع للتكنولوجيا وما يسمى الثورة الصناعية 4.0، أي الذكاء…

د. فوزي بوّاب
2nd February, 2021
اقرأ أكثر